فصل: الشاهد السابع والتسعون بعد السبعمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الرابع والتسعون بعد السبعمائة

الكامل

رب هيضل لجب لففت بهيضل

على أن رب فيه للتكثير‏.‏ أي‏:‏ كثيراً ما لففت هيضلاً بهيضل‏.‏

ورب على اختيار الشارح اسم، ومحلها رفع على الابتداء، والموجب لبنائها تضمنها معنى الإنشاء الذي حقه أن يؤدى بالحرف، كالاستفهام والأمر والنهي‏.‏ ورب هنا مخففة مفتوحة الباء‏.‏

قال أبو علي في كتاب الشعر‏:‏ الحروف على ضربين‏:‏ حرف فيه تضعيف وحرف لا تضعيف فيه‏.‏

فالأول قد يخفف بالحذف منه، كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب، وذلك نحو‏:‏ إن، وأن، ولكن، ورب والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون‏.‏ وقد جاء‏:‏

أزهير إن يشب القذال فإنه *** رب هيضل لجب لففت بهيضل

ويمكن أن يكون الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث، فأشبه بهما الأسماء، كما حرك الآخر من ضرب‏.‏ انتهى المراد منه‏.‏

ورواه ابن جني في المحتسب بسكون الباء‏.‏ أنشد البيت، وقال‏:‏ أراد رب فحذف إحدى الباءين وبقى الثانية مجزومة، كما كانت قبل الحذف‏.‏

ورواه العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين‏.‏ أنشد البيت، وقال‏:‏ رب فيه خفيفة‏.‏ ورواه بعضهم‏:‏ رب هيضل بتسكين الباء‏.‏

وأنشد‏:‏ الوافر

ألا رب ناصر لك من لؤي *** كريم لو تناديه أجابا

وتقول العرب‏:‏ رب بالتشديد، ورب بالتخفيف، ورب رجل فيسكنون الباء، ثم يقولون‏:‏ رُبَّت رجل ورُبَتَ رجل، ورَبَّ رجل فيفتحون الراء ويشددون، وربما رجل مشدد ومخفف، وربتما فيفتحون‏.‏ حكى ذلك قطرب‏.‏ انتهى‏.‏

وبهذا النقل يرد على أبي علي، وعلى ابن يعيش في قوله تبعاً له‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ رب بضم الراء، وفتح الباء خفيفة، ويحتمل ذلك وجوهاً‏:‏ أحدها‏:‏ أنهم حذفوا إحدى الباءين تخفيفاً، كراهية التضعيف، وكان القياس أن يسكن آخرها، لأنه لم يلتق فيها ساكنان، كما فعلوا بإن ونظائرها حين خففوها، إلا أن المسموع رب بالفتح، نحو قوله‏:‏

رب هيضل لجل لففت بهيضل

كأنهم أبقوا الفتحة مع التخفيف دلالة على أنها كانت مثقلة مفتوحة‏.‏

ويمكن أن يكون إنما فتح باء رب لأنه لما لحقه الحذف وتاء التأنيث أشبهت الأفعال الماضية، ففتحت‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم لما استثقلوا التضعيف، حذفوا الحرف الساكن‏.‏

وقد قالوا‏:‏ رب بالتخفيف وسكون الباء على القياس، حذفوا المتحرك، لأنه أبلغ في التخفيف‏.‏ انتهى‏.‏

وقد نقض أول كلامه بآخره‏.‏

والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذلي، وأولها‏:‏ الكامل

أزهير هل عن شيبة من معدل *** أم لا سبيل إلى الشباب الأول

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره *** أشهى إلي من الرحيق السلسل

ذهب الشباب وفات مني ما مضى *** ونضا زهير كريهتي وتبطلي

وصحوت عن ذكر الغواني وانتهى *** عمري وأنكرني الغداة تقتلي

أزهير إن يشب القذال فإنه *** رب هيضل مرس لففت بهيضل

فلففت بينهم لغير هوادة *** إلا لسفك للدماء محلل

وقوله‏:‏ أزهير إلخ ، الهمزة للنداء‏.‏ وزهير‏:‏ مرخم زهير، وهي ابنته‏.‏ قال السكري، وكذا قال أبو سعيد‏:‏ ومنهم من يقول امرأة، ومنهم من يقول‏:‏ رجل‏.‏

أقول‏:‏ يرد الأخيرين قوله في الرائية كما يأتي‏.‏ والمعدل‏:‏ العدول‏.‏ والرحيق‏:‏ الخمر‏.‏

والسلسل‏:‏ العذب يتسلسل في الحلق تسلسلاً‏.‏ ونضا، بالنون والضاد المعجمة، بمعنى انسلخ ومضى‏.‏ وزهير منادى مرخم‏.‏ وكريهته‏:‏ شدته على الكريهة والحرب‏.‏ وتبطله‏:‏ أخذه في الباطل‏.‏

والغواني‏:‏ جمع غانية، وهي المرأة التي غنيت بحسنها عن الزينة‏.‏ والتقتل بالقاف‏:‏ التلين والتكسر والتثني‏.‏

وقوله‏:‏ أزهير إن يشب إلخ ، هذا أيضاً منادى مرخم‏.‏ والقذال‏:‏ ما بين النقرة وأعلى الأذن، وهو أبطأ الرأس شيباً‏.‏ والهيضل، بفتح الهاء والضاد المعجمة‏:‏ الجماعة‏.‏

وقوله‏:‏ لففت بهيضل يريد‏:‏ جمعت بينهم في القتال‏.‏ واللجب، بفتح اللام وكسر الجيم، في الصحاح‏:‏ وجيش لجب‏:‏ عرمرم، أي‏:‏ ذو جلبة وكثرة‏.‏

واللجب، بفتح الجيم‏:‏ الصوت والجلبة‏.‏ وروى بدله‏:‏ مرس بكسر الراء، أي‏:‏ شديد‏.‏

وقوله‏:‏ فلففت بينهم إلخ ، قال السكري‏:‏ يقول‏:‏ إنما لففت بينهم ليقتتلوا، لا لهوادة، ولا لصداقة، وهو قوله‏:‏ إلا لسفك للدماء محلل، أي‏:‏ محلل النذر إذا بلغه‏.‏ ومحلل‏:‏ مما يستحل‏.‏ الهوادة‏:‏ الصلح، وأصله من اللين يقال‏:‏ هود في السير، إذا لين‏.‏

قال ابن قيبة في كتاب الشعراء‏:‏ أبو كبير هو عامر بن حليس، وله أربع قصائد أولها كلها شيء واحد‏.‏ ولا يعرف أحد من الشعراء فعل ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ ثانيها‏:‏ الكامل

أزهير هل عن شيبة من مقصر *** أم لا سبيل إلى الشباب المدبر

فقد الشباب أبوك إلا ذكره *** فاعجب لذلك فعل دهر واهكر

قال السكري‏:‏ الهكر من أشد العجب‏.‏ وهذا خطاب لنفسه‏.‏

وثالثها‏:‏ الكامل

أزهير هل عن شيبة من مصرف *** أم لا خلود لباذل متكلف

ورابعها‏:‏ الكامل

أزهير هل عن شيبة من معكم *** أم لا خلود لباذل متكرم

قال السكري‏:‏ من معكم‏:‏ من مرجع، يقل‏:‏ عكم يعكم‏.‏

وأبو كبير الهذلي صحابي تقدمت ترجمته مع شرح أبيات من هذه القصيدة في الشاهد الثامن بعد الستمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

ماوي يا ربتما غارة *** شعواء كاللذعة بالميسم

وتقدم شرحه قريباً في الشاهد الستين بعد السبعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والتسعون بعد السبعمائة

الطويل

فإن تمس مهجور الفناء فربم *** أقام به بعد الوفود وفود

على أن ربما فيه للتكثير‏.‏ وهو ظاهر‏.‏

وأورده الزمخشري عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً على أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما في البيت، فإن المضارع كانت بمعنى ربما، فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما في البيت، فإن المقام مقام مدح لا يناسب التقليل، وإلا لكان ذماً‏.‏ ورب هنا مكفوفة بما عن عمل الجر، ومهيئة للدخول على الجملة الفعلية‏.‏

ولا يتأتى هنا ما اختار الشارح من أنها اسم مبتدأ، إذ لا مجرور موصوف بجملة فعلية‏.‏ ولا يعرف على اختياره ما موقع الجملة بعد رب المكفوفة‏.‏

والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة لأبي عطاء السندي، رثى بها يزيد بن هبيرة الفزاري، وهي‏:‏

ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط *** عليك بجاري دمعها لجمود

عشية قام النائحات وشققت *** جيوب بأيدي مأتم وخدود

فإن تمس مهجور الفناء فربم *** أقام به بعد الوفود وفود

فإنك لم تبعد على متعهد *** بلى كل من تحت التراب بعيد

وقيل رثاه بها معن بن زائدة الشيباني، وكان من أتباع ابن هبيرة ومن أكبر أعوانه في الحروب وغيرها‏.‏

وابن هبيرة مولده الشام في سنة سبع وثمانين، ولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، يوم غلب على دمشق وجمع له ولاية العراقين، فلما أدبرت دولة بني مروان خرج قحطبة بن شبيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، أحد دعاة بني العباس، في جيوش خراسان، ثم ولده الحسن من بعده فهزموه، ولحق ابن هبيرة بمدينة واسط، فحاصره أبو جعفر المنصور مع الحسن، وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة، حتى جعل له أماناً، وكتب به كتاباً‏.‏

فمكث يشاور فيه العلماء أربعين ليلة حتى رضي به ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أخيه السفاح، فأمره بإمضائه له‏.‏

ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة، فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب، فقال‏:‏ مرحباً أبا خالد، انزل راشداً‏!‏ وقد أطاف بالحجرة عشرة آلاف من أهل خراسان‏.‏ فنزل ودعا له بوسادة، ثم قال له الحاجب‏:‏ ادخل أبا خالد‏.‏

فقال له‏:‏ أنا ومن معي من القواد‏.‏ فقال له‏:‏ إنما استأذنت لك وحدك‏.‏ فدخل على أبي جعفر وحادثه ساعة ثم انصرف‏.‏ فقال أبو جعفر للحاجب‏:‏ قل لابن هبيرة يدع الجماعة، ويأتينا بحاشيته‏.‏

وجاء بعد في نحو من ثلاثين، فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة من أصحابه، يتغذى، ويتعشى عنده، وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله، وهو يراجعه، فكتب إليه‏:‏ والله لتقتلنه، ولأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يقتله‏.‏ فعزم على قتله، وأرسل الهيثم بن شعبة في نحو من مائة فأرسلوا إلى ابن هبيرة‏:‏ إنا جئنا لنأخذ هذا المال‏.‏ فقال ابن هبيرة لحاجبه‏:‏ انطلق فدلهم عليه‏.‏

فأقاموا عند كل بيت نفراً، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه وحاجبه، وعدة من مواليه، وبني له صغير في حجره، فأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم فضربه الهيثم فقتله، وقاتل ابنه داود فقتل، وقتل مواليه، ونحي الصبي من حجره، وخر ساجداً، فقتل وهو ساجد‏.‏

وكان قتله بواسط يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏

ولما قتل كان معن بن زائدة غائباً عند السفاح فسلم، فرثاه أبو عطاء السندي بهذه الأبيات، وقيل معن بن زائدة‏.‏

قال ابن عساكر في تاريخه الكبير‏:‏ كان ابن هبيرة إذا أصبح أتى بعس، وهو القدح الكبير، وفيه لبن قد حلب على عسل، وأحياناً على سكر فيشربه، فإذ صلى الغداة جلس في مصلاه حتى يحركه اللبن، فيدعو بالغداء، فيأكل دجاجتين، وفرخي حمام، ونصف جدي، وألواناً من لحم، ثم يخرج، فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل فيدعو جماعة من خواصه وأعيان الناس، ويدعو بالغداء فيتغدى ويعظم اللقم ويتابع، فإذا فرغ من الغداء دخل إلى نسائه، حتى يخرج إلى صلاة الظهر، ثم ينظر في أمور الناس‏.‏

فإذا صلى العصر وضع له سرير، ووضعت الكراسي للناس، فإذا أخذوا مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل، وألوان الأشربة، ثم توضع السفرة والطعام للعامة، ويوضع له ولإخوانه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه ثم يتفرقون للصلاة، ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلسه فيسامرونه حتى يذهب عامة الليل‏.‏

وكن يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبحوا قضيت‏.‏ وكان رزقه ستمائة ألف درهم، فكان يقسم كل شهر في أصحابه من قومه، ومن الفقهاء والوجوه وأهل البيوتات أكثر من نصفها‏.‏

روي أن شريك بن عبد الله النمري سايره يوماً، فبرزت بغلة شريك، فقال له ابن هبيرة‏:‏ غض من لجامها‏.‏ فقال شريك‏:‏ إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير‏!‏ فقال ابن هبيرة‏:‏ ما ذهبت حيث أردت‏.‏

وقول ابن هبيرة‏:‏ غض من لجامها، يشير إلى قول جرير‏:‏ الوافر

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

فعرض له شريك بقول ابن دارة‏:‏ البسيط

لا تأمنن فزارياً خلوت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار

وكان بنو فزارة في العرب يرمون بإتيان الإبل‏.‏

وأخبار ابن هبيرة ومحاسنه كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ألا إن عيناً لم تجد إلخ ، افتتح كلامه بحرف التنبيه، ثم أخذ يعظم أمر الفجيعة، ويبين موقعها من النفوس، وتأثيرها في القلوب، فقال‏:‏ إن عيناً لم تجد بدمعها عليك يوم واسط لشديدة البخل بما في شؤونها من الماء‏.‏

قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب‏:‏ لم تجد‏:‏ لم تسمح بالبكاء‏.‏ وجمود‏:‏ قليلة الدمع، يقال‏:‏ عين جامدة وجمود‏.‏ وسنة جماد‏:‏ قليلة القطر‏.‏

وقوله‏:‏ عشية قام النائحات إلخ ، عشية بدل من يوم واسط‏.‏

قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب إن قيل‏:‏ كيف جاز أن يعمل فيه لم يجد، وقد حال الخبر وهو الجمود، بين العامل والمعمول‏.‏

ولو قلت‏:‏ إن الضارب أخوك زيداً، وإن خارجاً غير مصيب يوم الجمعة لم يجز، وإنما يجب فيهما تقديم المعمول على الخبر‏؟‏ قلت‏:‏ إن العشية لما كانت بدلاً من يوم، والمبدل يقدر من جملة أخرى، ويقدر معه إعادة العامل جاز ذلك‏.‏

وقد أجاز النحويون تأخر الصفة بعد الخبر في نحو‏:‏ إن زيداً خارج الكريم، والصفة أشد اتصالاً بالموصوف من البدل‏.‏ وأجازوا ذلك في المعطوف، نحو‏:‏ إن زيداً خارج وعمراً وعمرو‏:‏ على اللفظ وعلى الموضع‏.‏ وإذا جاز في الصفة كان في البدل أجوز‏.‏

وقوله‏:‏ قام النائحات، أي‏:‏ تهيأن للنوح‏.‏ والمأتم‏:‏ النساء يجتمعن في الخير والشر، قال الخطيب‏:‏ وأصله من الأتم وهو التقاء المسلكين، ومنه الأتوم في صفة النساء‏.‏

وقوله‏:‏ فإن تمس مهجور إلخ ، الفناء بكسر الفاء والمد‏:‏ ساحة الدار‏.‏

والوفود‏:‏ الزوار وطلاب الحاجات‏.‏ قال المرزوقي‏:‏ الرواية المختارة‏:‏ وربما أقام بالواو‏.‏

وذلك أن جواب الشرط في قوله‏:‏

فإنك لم تبعد على متعهد

ويصير وربما أقام بيان الحال فيما تقدم من رياسته وقت توفر الناس على قصده وزيارته‏.‏

والمعنى‏:‏ إن مت وصرت مهجور الساحة، وربما كانت الوفود تزدحم على بابك، فإنك الساعة لم تبعد على من يتعهدك، ويريد قضاء حقك، وإقامة الرسم في زيارتك‏.‏

ثم قال مستدركاً على نفسه‏:‏

بلى كل من تحت التراب بعيد

ويريد بالمتعهد متتبع العهود بالحفظ لها، ومنعها من الدروس‏.‏ وإذا رويت فربما وجعلته جواب الشرط يكون فإنك لم تبعد استئناف كلام‏.‏

والمعنى‏:‏ إن هجر فناؤك اليوم فربما كان مألفاً للوفود أيام حياتك‏.‏ وتقول العرب‏:‏ هذا بذاك، أي‏:‏ عوض من ذاك‏.‏

وقال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ ينبغي أن يكون جواب الشرط مستقبلاً، وربما جاءت مكانه جملة ماضية، والشرط لا يصح إلا بالاستقبال، والمستقبل لا يكون علة للماضي؛ لئلا يتقدم المعلول على علته‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك، فالكلام محمول على معناه دون لفظه‏.‏ ألا ترى أن معناه إن أمسيت هكذا فتسل عنه بذكر ما مضى، أي‏:‏ فليكن هذا بإزاء ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من الاستدراك، وهو من محاسن الشعر‏.‏ والاستدراك‏:‏ أن يأخذ الشاعر في معنى يرسله، ووصف يذكره يستدركه على نفسه‏.‏

وأبو عطاء السندي قيل اسمه مرزوق، وهو قول ابن قتيبة‏.‏ وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ هو أفلح بن يسار، مولى لبني أسد‏.‏ وكان يسار سندياً، أعجمياً لا يفصح، وأبو عطاء ابنه عبد أسود لا يكاد يفصح أيضاً، جمع بين لثغة ولكنة، وهو مع ذلك من أحسن الناس بديهة، وأشدهم عارضة وتقدماً‏.‏

وهو شاعر فحل في طبقته، أدرك الدولتين‏.‏ وكان من شعراء بني أمية وشيعتهم، وهجا بني هاشم، ومات عقب أيام المنصور‏.‏

ودخل يوماً على المنصور وهو يسحب الوشي والخز، فقال له المنصور‏:‏ أنى لك هذا يا أبا عطاء‏؟‏ فقال‏:‏ كنت ألبس هذا في الزمن الصالح‏.‏ ثم ولى ذاهباً فاستخفى، فما ظهر حتى مات المنصور‏.‏

فمما قال في بني هاشم‏:‏ الطويل

بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم *** فقد قام سعر التمر صاع بدرهم

فإن قلتم رهط النبي صدقتم *** فهذي النصارى رهط عيسى بن مريم

انتهى‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ أبو عطاء السندي اسمه مرزوق، وكان جيد الشعر، وكانت به لكنة‏.‏

قال حماد الراوية‏:‏ كنت يوماً وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان مجتمعين، فنظر بعضنا إلى بعض فقلنا‏:‏ لو بعثنا إلى أبي عطاء‏.‏

فبعثنا إليه فقلنا‏:‏ من يحتال حتى يقول‏:‏ جرادة، وزج، وشيطان‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا‏.‏ وجاء فقال‏:‏ من هاهنا‏؟‏ فقلنا‏:‏ ادخل‏.‏ فدخل فقلنا‏:‏ أتتعشى‏؟‏ فقال‏:‏ قد تأسيت‏.‏ قلت‏:‏ أفتشرب‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ فشرب حتى استرخى‏.‏ فقال حماد الراوية‏:‏ كيف بصرك باللغز‏؟‏ قال‏:‏ هسن‏.‏ قال‏:‏ الوافر

فما صفراء تكنى أم عوف *** كأن رجيلتيها منجلان

فقال‏:‏ زرادة‏.‏ قال‏:‏ أصبت‏.‏ ثم قال‏:‏ الوافر

فما اسم حديدة في الرمح ترسى *** دوين الصدر ليست بالسنان

قال‏:‏ زز‏.‏ قال‏:‏ أحسنت‏.‏ ثم قال‏:‏ الوافر

أتعرف مسجداً لبني تميم *** فويق الميل دون بني أبان

قال‏:‏ بني سيتان‏.‏ فقلنا‏:‏ أصبت يا أبا عطاء، وضحكنا‏.‏ انتهى‏.‏

وفي رواية غيره أنه أجابه في الأول ببيت، وهو‏:‏

فتلك زرادة وأذن ذن *** بأنك قد عنيت به لساني

يريد بالزرادة‏:‏ الجرادة‏.‏ وأذن ذناً، أي‏:‏ أظن ظناً‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ البسيط

هذا سراقة للقرآن يدرسه

على أن الضمير في يدرسه ضمير المصدر المفهوم من يدرس، أي‏:‏ يدرس الدرس‏.‏

وقد تقدم شرحه في الشاهد الثاني والثمانين‏.‏

وتمامه‏:‏

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

وأنشد بعده‏:‏ المديد

غير مأسوف على زمن *** ينقضي بالهم والحزن

وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والخمسين من باب المبتدأ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والتسعون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الرجز

يا رب هيجا هي خير من دعه

على أنه يجوز أن تقع الجملة الاسمية نعتاً لمجرور رب، ف‏؟‏ هي مبتدأ، وخير خبره، والجملة نعت لهيجا، وهي الحرب، تمد وتقصر، وهي هنا مقصورة‏.‏

والدعة‏:‏ الخفض والراحة‏.‏ والهاء عوض من الواو، تقول منه‏:‏ ودُع الرجل بالضم، فهو وديع، أي‏:‏ ساكن، ووداعٌ أيضاً‏.‏ والموادعة‏:‏ المصالحة‏.‏ ويا‏:‏ حرف تنبيه، وحرف نداء، والمنادى محذوف‏.‏

ورب هنا للتكثير، وهي اسم مبتدأ على ما اختاره الشارح المحقق لا خبر لها، والجملة التي هي نعت مجرورها، قد سدت مسد الخبر، لا يقدر لها جواب يعلم في محل مجرورها‏.‏

وهو من رجز للبيد بن ربيعة العامري الصحابي، أورده ثعلب في أماليه، وهو‏:‏

لا تزجر الفتيان عن سوء الرعه *** يا رب هيجا هي خير من دعه

في كل يوم هامتي مقزعه *** نحن بنو أم البنين الأربعه

نحن خيار عامر بن صعصعه *** المطعمون الجفنة المدعدعه

والضاربون الهام تحت الخيضعه *** يا واهب المال الجزيل من سعه

إليك جاوزنا بلاداً مسبعه *** إذ الفلاة أوحشت في المعمعه

يخبرك عن هذا خبير فاسمعه

فقال النعمان‏:‏ ما هو‏؟‏ فقال‏:‏

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

فقال النعمان‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏

إن استه من برص ملمعه

قال النعمان‏:‏ وما علي‏؟‏‏؟‏‏!‏ قال‏:‏

وإنه يدخل فيها إصبعه *** يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيعه

الرعة‏:‏ حالة الأحمق التي رضي بها‏.‏

وقوله‏:‏ مقزعة، يقول‏:‏ أنا أقاتل في كل يوم وأقاتل‏.‏ والمدعدعة‏:‏ المملوءة‏.‏ والخيضعة‏:‏ أصوات الحرب‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا السياق مبتور لا ينتفع به، وأوفى ما رأيته ما رواه السيد المرتضى علم الهدى في أماليه المسماة بغرر الفرائد، ودرر القلائد، قال‏:‏ إن عمارة، وأنساً، وقيساً، والربيع، بني زياد العبسيين، وفدوا على النعمان ابن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو ملاعب الأسنة، وكان العامريون ثلاثين رجلاً، وفيهم لبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو يومئذ غلام له ذؤابة‏.‏

وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه، وكان يدعى الكامل لشطاطه، وبياضه، وكماله، فضرب النعمان قبة على أبي براء، وأجرى عليه، وعلى من كان معه النزل، وكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فافتخروا يوماً بحضرته، فكاد العبسيون يغلبون العامريين‏.‏

وكان الربيع إذا خلا بالنعمان طعن فيهم‏.‏ وذكر معايبهم، ففعل ذلك مراراً لعداوتهم لبني جعفر، لأنهم كانوا أسروه، فصد النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبي براء، وقطع النزل، ودخلوا عليه يوماً، فرأوا منه جفاء وقد كان قبل ذلك يكرمهم، ويقدم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضاباً، وهموا بالانصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بها‏.‏

فأتاهم تلك الليلة، وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم‏:‏ ما لكم تتناجون‏؟‏ فكتموه، وقالوا له‏:‏ إليك عنا‏.‏ فقال‏:‏ أخبروني فلعل لكم عندي فرجاً‏.‏ فزجروه، فقال‏:‏ لا والله لا أحفظ لكم، ولا أسرح لكم بعير وتخبروني‏.‏

وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع، فقالوا له‏:‏ إن خالك قد غلبنا على الملك، وصد عنا وجهه‏.‏

فقال لهم‏:‏ هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غداً، حين يقعد الملك، فأرجز به رجزاً ممضاً مؤلماً، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبداً‏؟‏ قالوا له‏:‏ وهل عندك ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قالوا‏:‏ إنا نبلوك بشتم هذه البقلة، وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض - تدعى التربة - فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده، وقال‏:‏ هذه البقلة التربة الثفلة الرذلة، التي لا تذكي ناراً، ولا تسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل‏.‏ بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع‏.‏ أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعاً، فحرباً لجارها وجدعاً‏.‏ القوا بي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في ليس‏.‏

فقالوا‏:‏ نصبح، ونرى فيك رأينا‏.‏ فقال لهم عامر‏:‏ انظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائماً، فليس أمره بشيء، إنما تكلم بما جرى على لسانه‏.‏ وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبكم‏.‏

فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلاً يكدم واسطته حتى أصبح‏.‏ فلما أصبحوا، قالوا‏:‏ أنت والله صاحبه‏.‏ فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان، فوجدوه يتغدى، ومعه الربيع، ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد‏.‏

فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه‏.‏ فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترضهم الربيع في كلامهم، فقال لبيد، وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره، وانتعل نعلاً واحدة - وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء - فمثل بين يديه ثم قال‏:‏

يا رب هيجا هي خير من دعه *** إذ لا تزال هامتي مقزعه

نحن بني أم البنين الأربعة *** ونحن خير عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المدعدعه *** والضاربون الهام تحت الخيضعه

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه *** إن استه من برص ملمعه

وإنه يدخل فيها إصبعه *** يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيعه

فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزراً‏.‏ قال‏:‏ أكذلك أنت‏؟‏ قال‏:‏ كذب والله ابن الحمق اللئيم‏؟‏ فقال النعمان‏:‏ أف لهذا الطعام، لقد خبث علي طعامي‏.‏ فقال الربيع‏:‏ أبيت اللعن، أما إني قد فعلت بأمه‏!‏ لا يكني‏.‏ وكانت في حجره‏.‏

فقال لبيد‏:‏ أنت لهذا الكلام أهل‏؟‏‏!‏ أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء قال هذا في يتيمته‏.‏

ووجدت في رواية أخرى‏:‏ أما إنها من نسوة فعل‏.‏ وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع، فنسهبا إلى لقبيح وصدقه عليها، تهجيناً له ولقومه‏.‏

فأمر الملك بهم جميعاً فأخرجوا، وأعاد أبي براء القبة، وانصرف الربيع إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله‏.‏ فكتب إليه‏:‏ إني قد تخوفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد، ولست برائم حتى تبعث من يجردني ليعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال‏.‏

فأرسل إليه إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً، ولا قادراً على رد ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك‏!‏ ثم كتب إليه النعمان في جملة ما كتبه أبياتاً جواباً عن أبيات كتبها إليه الربيع مشهورة‏:‏ البسيط

شمر برحلك عني حيث شئت ول *** تكثر علي ودع عنك الأقاويلا

قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذب *** فما اعتذارك من شيء إذا قيلا

وقد جاءنا هذا الخبر من عدة طرق، وفي كل زيادة على الآخر، ولم نأت بجميع الخبر على وجهه، بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد‏:‏ إن بني أم البنين وجماعة منهم، أتوا النعمان أول ما ملك، في أسارى من بني عامر يشترونهم منه‏.‏ إلى آخر ما أوردناه في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائتين في شرح قوله‏:‏

قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذب ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

وساق هذا الخبر كالطوسي الخطيب التبريزي في شرح ذيل المعلقات، وأورد الأبيات كثعلب إلا البيت الأول‏.‏

وقوله‏:‏

يخبرك عن هذا خبير فاسمعه

فإنه أسقطهما‏.‏

وقوله‏:‏

في كل يوم هامتي مقزعه

قال السيد المرتضى‏:‏ القزع‏:‏ تساقط بعض الشعر والصوف، وبقاء بعضه‏.‏ يقال‏:‏ كبش أقزع، وناقة قزعاء‏.‏

وقوله‏:‏ نحن بنو أم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، هذا البيت من شواهد سيبويه، أورده في باب الاختصاص الذي يجري على ما جرى عليه النداء‏.‏ قال‏:‏ وأما قول لبيد‏:‏

نحن بنو أم البنين الأربعة

فلا ينشدونه إلا رفعاً، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يعرفوا بأن عدتهم أربعة، ولكنه جعل الأربعة وصفاً ثم قال‏:‏ المطعمون الفاعلون، بعد ما حلاهم ليعرفوا‏.‏ انتهى‏.‏

وخالفه المبرد، وقال‏:‏ النصب فيه جيد على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن أم البنين امرأة شريفة، وبنوها الأربعة كلهم سيد فينصب بني على الفخر‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ على معنى أعني، بلا مدح ولا ذم‏.‏

قال النحاس بعد ما نقله‏:‏ هذا الذي ذهب إليه سيبويه صحيح، ألا تراه قال‏:‏ إنه لم يرد أن يجعلهم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فهذا قول صحيح‏.‏ فيجوز أن يكون بنو خبر نحن، والأربعة نعت كما قال سيبويه، والمطعمون خبر بعد خبر‏.‏

ويجوز أن يكون بدلاً من نحن والمطعمون خبر، والأربعة صفة للبنين‏.‏ فإذا رفع، فإنما أفاد هذا النسب‏.‏ فإذا نصب فالخبر ما بعده‏:‏ ونصبه على الاختصاص‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا ذهب ثعلب في أماليه، قال بعضهم ينصب بني وليس بالوجه، لأنه ليس مدحاً يمدح نفسه بأن عددهم أربعة‏.‏

والعرب تفعل هذا في بني، ورهط، ومعشر، وآل‏.‏ قال الفراء‏:‏ كأنهم قالوا‏:‏ نحن جميعاً نقول ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وأم البنين‏:‏ اسمها ليلى بنت عامر‏.‏ قاله السهيلي في الروض‏.‏

وقال السيد المرتضى‏:‏ هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن صعصعة، وكانت تحت مالك بن جعفر بن كلاب، ولدت له عامر بن مالك ملاعب الأسنة‏.‏ وطفيل ابن مالك فارس قرزل، وهو أبو عامر بن الطفيل، وقرزل‏:‏ فرس كانت له‏.‏ وربيعة ابن مالك أبا لبيد، وهو ربيع المقترين‏.‏ ومعاوية بن مالك معود الحكماء‏.‏ وإنما لقب بهذا لقوله‏:‏ الوافر

أعوذ مثلها الحكماء بعدي *** إذا ما الحق في الأشياع نابا

وولدت عبيدة الوضاح‏.‏ فهؤلاء خمسة‏.‏ وقال لبيد‏:‏ أربعة، لأن الشعر لا يمكنه غير ذلك‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وسمي ملاعب الأسنة في ويوم سوبان، وهو يوم كانت فيه وقعة في أيام جبلة، وهي أيام حرب كانت بين قيس وتميم‏.‏ وجبلة‏:‏ اسم لهضبة عالية‏.‏

وسبب تسميته ملاعب الأسنة أن أخاه الذي يقال له فارس قرزل، وهو الطفيل، كان أسلمه في ذلك اليوم وفر، فقال شاعر‏:‏ الطويل

فررت وأسلمت ابن أمك عامر *** يلاعب أطراف الوشيج المزعزع

فسمي ملاعب الرماح، وملاعب الأسنة‏.‏ قال لبيد‏:‏

وأبنا ملاعب الرماح *** ومدره الكتيبة الرداح

انتهى‏.‏

وقال مغلطاي في الزهر الباسم‏:‏ يخدش فيه ما ذكره سابقاً‏:‏ أن عامر بن مالك ملاعب الرماح، وعامر بن الطفيل ملاعب الأسنة لقبا بهما مبالغة في وصف شجاعتهما‏.‏

ثم قال السهيلي‏:‏ وسمي معاوية معود الحكماء بقوله‏:‏

يعود مثلها الحكماء بعدي *** إذا ما الأمر في الحدثان نابا

وفي هذا الشعر‏:‏

إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

وقول السيد المرتضى‏:‏ إن لبيداً إنما قال أربعة، وهم خمسة لضرورة الشعر، هذا قول الفراء، وهو قول فارغ‏.‏ والصواب كما قال ابن عصفور في الضرائر‏:‏ لم يقل إلا أربعة، وهم خمسة، على جهة الغلط‏.‏ وإنما قال ذلك لأن أباه كان مات، وبقي أعمامه، وهم أربعة‏.‏

وهو مسبوق بالسهيلي، فإنه قال‏:‏ وإنما قال الأربعة لأن أباه كان قد مات قبل ذلك، لا كما قال بعض الناس‏.‏ وهو قول يعزى إلى الفراء، أنه قال‏:‏ إنما قال أربعة، ولم يقل خمسة من أجل القوافي‏.‏ فيقال له‏:‏ لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر، فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن‏.‏

وأعجب من هذا أنه استشهد به على تأويل فاسد تأوله في قوله سبحانه‏:‏ ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وقال‏:‏ أراد جنة واحدة وجاء بلفظ التثنية لتتفق رؤوس الآي، وكلاماً هذا معناه‏.‏ فصمي صمام ما أشنع هذا الكلام، وأبعده عن العلم، وفهم القرآن، وأفل هيبة قائله من أن يتبوأ مقعده من النار، فحذار منه حذار‏.‏

ومما يدلك أنهم كانوا أربعة حين قال لبيد هذه المقالة أن في الخبر يتم لبيد وصغر سنه، وأن أعمامه الأربعة استصغروه أن يدخلوه معهم إلى النعمان‏.‏ فبان بهذا أنهم كانوا أربعة‏.‏ ولو سكت الجاهل لقل الخلاف‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏

المطعمون الجفنة المدعدعة

الجفنة، بفتح الجيم‏:‏ القصعة الكبيرة‏.‏ قال أبو حنيفة في كتاب النبات‏:‏ ولا آنية أكبر من الجفنة‏.‏

والمدعدعة في قول لبيد هي المملوءة، فهو بالدال المهملة‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ دعدعت الشيء‏:‏ ملأته‏.‏ وجفنة مدعدعة، أي‏:‏ مملوءة‏.‏ وقوله‏:‏ تحت الخيضعة بالخاء والضاد المعجمتين‏.‏

قال السيد‏:‏ ذكر الأصمعي أن لبيداً، قال‏:‏ تحت الخضعة يعني الجلبة والأصوات، فغيرته الرواة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخيضعة أصوات وقع السيوف‏.‏ والخيضعة أيضاً‏:‏ البيضة التي تلبس على الرأس‏.‏ والخيضعة‏:‏ الغبار‏.‏ والقول يحتمل كل ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف‏:‏ الخيضعة‏:‏ البيضة‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ ورد عليه علي بن حمزة في كتاب التنبيهات بأن هذا لم يقله أحد قط، وإنما اختلاف أهل العلم في رواية الشعر، فرواه قوم‏:‏ تحت الخيضعة، كما روي، وفسروه بأن قالوا‏:‏ الخيضعة‏:‏ اختلاط الأصوات في الحرب‏.‏

ورواه آخرون‏:‏ تحت الخضعة، وقالوا‏:‏ هي السيوف‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ إنما قال لبيد تحت الخضعة، فزادوا الياء فراراً من الزحاف‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ بلاداً مسبعة، البلاد‏:‏ الأراضي‏.‏ وأرض مسبعة بالفتح، أي‏:‏ ذات سباع‏.‏ والمعمعة، قال صاحب الصحاح‏:‏ هي صوت الحريق في القصب ونحوه، وصوت الأبطال في الحرب‏.‏

والملمع‏:‏ الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه‏.‏ والأشجع‏:‏ أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأورد ابن الحباب السعدي في كتاب مساوي الخمر حكاية مناسبة رأينا إيرادها هنا، قال‏:‏ ذكر بديع الزمان الهمذاني أنه لاعب أبا سعيد، خليفة أبي علي الحسين بن أحمد بجرجان، الشطرنج على خاتمين، قمره البديع عليهما، فأبى أن يعطيه إياهما، فذكر قصة طويلة أفضت الحال فيها بينهما بعد مراسلات بهجاء من البديع، وإغلاظ من الآخر، إلى أن اجتمع هو والبديع على مائدة صاحب أبي علي الحسين‏.‏

قال البديع‏:‏ وكان هذا الرجل أقرع، ولم يكن أحد يجسر أن يذكر بحضرته القرع ولا القرعة، ولا تقارع الأقران، ولا الأقرع بن حابس، ولا بني قريع، ولا يقرأ سورة القارعة‏.‏ فلما وضعت المائدة أمسكت عن الطعام، فقال‏:‏ مالك لا تأكل‏؟‏ فقلت‏:‏ وأشرت إلى أبي سعيد‏:‏

مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه *** استقذرته وتجنب قرعه

فإنه ينحي عليها إصبعه *** يحك تلك الهامة الملمعه

لا تدنه وذلك الرأس معه *** ومره إن أدنيته أن يضعه

إن لم يزايل عن حماك موضعه *** فارسم لفراشك ذا أن يصفعه

قال‏:‏ فأطرقت الجماعة، وبقي الأستاذ داهشاً، ثم قال‏:‏ يا مولاي إن لم يحتشمني ما يحتشم المائدة‏؟‏ فقلت له‏:‏ أطال الله بقاءك، ما أسرع ما أراك تتقذر‏؟‏ وحياتك علي لأنشدنك فيه ألف بيت بعضها يلعن بعضاً، إلا أن يعطيني خاتميه عطاء صغرياً‏.‏

فقال الأستاذ‏:‏ أمر الخاتمين أسهل، فما السبب‏؟‏ فقصصت القصة عليه، فمال إليه، وقال‏:‏ أشهد أنك ساقط الهمة، أما علمت أنه إن قمر وقمر أعطى الخطر‏!‏ ثم تناول الخاتمين، وناولنيهما، وسألني السكوت عنه، وعاهدني أن لا أزيد‏.‏ انتهى‏.‏

ونشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والتسعون بعد السبعمائة

الخفيف

رب رفد هرقته ذلك اليو *** م وأسرى من معشر أقيال

على أن الأكثر مراعاة الأصل في وقوع صفة مجرور رب جملة فعلية، سواء كانت مذكورة ومقدرة‏.‏

وقد اجتمعنا في هذا البيت‏.‏ أما الأول فهو جملة‏:‏ هرقته صفة لرفد، وهو القدح الكبير‏.‏ وإراقة الرفد كناية عن القتل والإماتة‏.‏

وأما الثاني فإن أسرى مجرور ب‏؟‏ رب المذكورة بطريق التبعية، ومن معشر متعلق بأسرى، وصفة أسرى محذوف، تقديره‏:‏ حصلت لي، ولا جواب لرب في الموضعين، لأن معنى الكلام تام لا يفتقر إلى شيء سوى الصفة المقدرة‏.‏ ورب اسم محلها الرفع على الابتداء لا خبر لها، للاستغناء بالصفة عن الخبر‏.‏ هذا تقدير كلامه‏.‏

وأقول يؤخذ من تقديره حصلت لي أن تاء هرقته مضمومة‏.‏ وليس كذلك، فإن هذا الكلام خطاب للأسود بن المنذر كما يأتي بيانه، فكان ينبغي أن يقول‏:‏ حصلت لك بالخطاب‏.‏ وقد أصاب فيما يأتي قريباً‏:‏ وأسرى من معشر أقيال، أي‏:‏ أسرتهم‏.‏

وقوله‏:‏ رفد، الرفد‏:‏ القدح الضخم، وهو قول الأصمعي فيما نقله أبو حنيفة في كتاب النبات عند ذكر أقسام الأواني، وضبطه بكسر الراء، وأنشد هذا البيت، وقال‏:‏ وكذلك المرفد بكسر الميم‏.‏

وكذا نقل ابن الأنباري في شرح المفضليات عن أحمد بن عبيد تلميذ الأصمعي‏.‏ قال‏:‏ وروى أحمد‏:‏ رب رفد الرفد بالكسر، وقال‏:‏ هو القدح‏.‏ والرفد بالفتح‏:‏ العمل‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الرفد بفتح الراء‏:‏ القدح الضخم بما فيه من القرى‏.‏ والرفد بالكسر‏:‏ المعونة‏.‏ يقال‏:‏ رفدته عند الأمير، أي‏:‏ أعنته‏.‏ هرقته أصله أرقته، فالهاء بدل من الهمزة‏.‏

وقوله‏:‏ هريق رفده كناية عن الموت، هو أحد قولين‏.‏ قال الزمخشري في أساس البلاغة‏:‏ هريق رفد فلان، إذا قتل، كما يقال‏:‏ صفرت وطابه، وكفئت جفنته‏.‏

وقال ابن الأنباري عند قول سلمة بن الخرشب الأنماري‏:‏ الطويل

هرقن بساحوق جفاناً كثيرة *** وغادرن أخرى من حقين وحازر

قوله‏:‏ هرقن، يعني الخيل‏.‏ وساحوق‏:‏ موضع‏.‏ أي‏:‏ قتلت أصحاب الجفان، ومن كان يقري فيها، ويحتلب، فكأنها لما قتلت أصحابها هراقتها، كما قال الأعشى‏:‏ رب رفد هرقته ذلك اليوم، إلخ‏.‏

ومثله قول امرئ القيس‏:‏ الوافر

وأفلتهن علباء جريض *** ولو أدركنه صفر الوطاب

وعلباء‏:‏ رجل‏.‏ والجريض‏:‏ الذي قارب الموت، فهو يجرض بريقه، أي‏:‏ يغص‏.‏ والوطاب‏:‏ جمع وطب، وهو سقاء اللبن‏.‏

وقوله‏:‏ وغادرن أخرى، أي‏:‏ تركن جفاناً لم يرقنها‏.‏ وروى‏:‏ وأدين أخرى، أي‏:‏ جئن بأسرى، وغير ذلك‏.‏ فاللفظ على اللبن، والمعنى على القوم‏.‏

وقوله‏:‏ من حقين وحازر، أي‏:‏ من سيد وشريف ودون ذلك‏.‏ ومثله قول أبي زبيد‏:‏ البسيط‏.‏

يا جفنة كنضيح الحوض قد كفئت *** بثني صفين يعلو فوقها القتر

أي‏:‏ قتل صاحبها، فذهبت وبطلت‏.‏ ومثله قول الآخر‏:‏ الوافر

وماذا بالقليب قليب بدر *** من الشيزى تكلل بالسنام

انتهى‏.‏

وكذا في شرح الفصيح للمرزوقي قال فيه‏:‏ الصفر، بالكسر‏:‏ الخالي، يقال‏:‏ صفرت الآنية تصفر صفراً، فهي صفرة‏.‏

وقيل اشتقاق الصفر في الشهور منه، لأن وطابهم كانت حينئذ تخلو من الألبان‏.‏ ويقال في الكناية عن الهلاك‏:‏ صفرت وطابهم‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ أريق جفانهم‏.‏

انتهى‏.‏

وكذا نقل ابن المستوفي عن الأصمعي، قال‏:‏ يريد قتلت صاحب ذلك الرفد، فبطل رفده‏.‏ والرفد‏:‏ اللبن والعطية والمعونة‏.‏ والرفد المصدر‏.‏ ويقال للقدح الذي يقرى فيه رفد‏.‏ والرفد‏:‏ المحلب الذي يحلب فيه‏.‏ وأما القول الآخر، فهو نهب الماشية وأخذها‏.‏

قال شارح ديوان الأعشى‏:‏ معناه رب رجل كانت له إبل يحلبها فاستقتها، فذهب ما كان يحلبه في الرفد، وهو القدح‏.‏

وقوله‏:‏ وأسرى‏:‏ هو جمع أسير كجرحى جمع جريح‏.‏ والمعشر‏:‏ الجماعة من الناس‏.‏ وأقيال‏:‏ روي بالمثناة التحتية والفوقية‏.‏

أما الأول فهو جمع قيل بفتح القاف مخفف قيل كسيد، وهو الملك مطلقاً، وقيل‏:‏ الملك من ملوك حمير، وقيل‏:‏ هو دون الملك الأعلى، سمي به لأنه يقول ما يشاء فينفذ‏.‏ والمرأة قيلة، ويجمع على أقوال أيضاً، حكاه ابن السكيت‏.‏

فالأول على اللفظ، والثاني بالنظر إلى الاشتقاق من القول، كما قالوا في جمع‏:‏ ريح أرياح وأرواح‏.‏

وقال الدماميني في الحاشية الهندية‏:‏ وقال جماعة‏:‏ لهذه الكلمة اشتقاقان‏:‏ فمن قال أقوال فهو من القول، ومن جمعه على أقيال، فهو من قولهم‏:‏ تقيل أباه، أي‏:‏ اتبعه في النسب، كما تسمي تبعاً من تبع الذي قبله في الملك‏.‏

قال هؤلاء‏:‏ ولو كان من القول لم يجز في جمعه إلا أقوال، كما لا يقال في الميت المخفف إلا أموات، ولا يقال أميات على اللفظ‏.‏

قال ابن الشجري‏:‏ ولا يلزم ذلك، لأنهم قالوا من جفوت، ومن الشوب‏:‏ مجفو، ومشوب على الأصل، ومجفي ومشيب على لفظ جفي وشيب‏.‏ ولم يطردوا ذلك في نحو‏:‏ مغزو ومدعو، فلم يقولوا‏:‏ مغزي، ومدعي، وإن قالوا‏:‏ غزي ودعي‏.‏

فكذلك قالوا‏:‏ أقيال على لفظ قيل، وإن لم يقولوا أميات‏.‏ قلت‏:‏ يرد هذا بأنه لا يصار إلى خلاف الأصل ما وجد عنه مندوحه‏.‏

ولا شك أن جمع قيل المشتق من القول على أقيال رعاية للفظ الياء خارج عن الأصل، فإذا وجد مشتقاً عند جمعه كذلك من التقيل، لم يخرج عن الأصل، لكان قول أولئك الجماعة بالاشتقاقين هو الراجح لا محالة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وأما الرواية بالمثناة الفوقية فهو جمع قتل بكسر القاف وسكون المثناة، وله معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ العدو المقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الشبه والنظير، أي‏:‏ العدل في المقاتلة، كما يقال‏:‏ سب للعديل في المسابة‏.‏ يقال هما‏:‏ قتلان، أي‏:‏ مثلان‏.‏ وكل منهما قيل به هنا‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ وقول الأعشى‏:‏ من معشر أقتال يعني الأعداء والقتلة الذين قتلوا أصحابك‏.‏

وأما أبو عبيدة فإنه قال‏:‏ هم الأشباه‏.‏ وأنشد في أنهم الأعداء لابن قيس الرقيات‏:‏ الخفيف

واغترابي عن عامر بن لؤي *** في بلاد كثيرة الأقتال

وأنشد أحمد في القتل المثل والشبه، في وصف بعيرين‏:‏ الرجز

من كل قتلين إذا ما ازدحم *** أدرك هذا غرب هذا بعدما

أغرب ذاك ذرعه فانصرما

وقول الشارح المحقق‏:‏ إن صفة أسرى محذوفة تقديرها ما ذكره، هذا مستغنى عنه يجعل من معشر متعلقاً بفعل صفة لأسرى، والتقدير‏:‏ وأسرى حصلت من معشر أقيال، كما قال الزمخشري في المفصل‏:‏ هرقته، ومن معشر‏:‏ صفتان لرفد وأسرى‏.‏

وكأن الشارح علق من معشر بأسرى، لأنه بمعنى رب مأخوذين من معشر‏.‏ ولا ضرورة إليه‏.‏

واعلم أن ما اختاره الشارح من جعل رب مبتدأ، لا خبر له مخالف للبصريين والكوفيين‏.‏

أما البصريون فقد قالوا‏:‏ إنها حرف لأنها لا تقبل شيئاً من خواص الاسم، من الإخبار عنه والإضافة، وعود الضمير إليه، ودخول أل والتنوين‏.‏

ولأنها لو كانت اسماً لجاز أن يتعدى إليها الفعل بنفسه، إن كان متعدياً، وبحرف الجر إن كان لازماً، فيقال‏:‏ رب رجل أكرمت، وبرب رجل مررت، كما يقال‏:‏ كم رجل أكرمت وبكم رجل مررت، إذ ليس في كلامهم اسم يتعدى إليه الفعل بنفسه إلا ويجوز أن يتعدى إليه الفعل اللازم بواسطة حرف الجر‏.‏ والشارح معترف بجميع هذا‏.‏

وأما الكوفيون فقد قالوا‏:‏ إنها اسم مثل كم، وقالوا‏:‏ محلها رفع بالابتداء قولنا‏:‏ رب رجل كريم لقيته، وفي نحو‏:‏ ورب قتل عار‏.‏ ومحلها نصب على المصدر في نحو‏:‏ رب ضرب ضربت، مثل كم ضربة ضربت‏.‏

وعلى الظرف في نحو‏:‏ رب يوم سرت مثل‏:‏ كم يوم سرت‏.‏ وعلى المفعول به في نحو‏:‏ رب رجل ضربت، نحو‏:‏ كم رجل ضربت‏.‏

والشارح تبع الكوفيين في اسميتها، وخالفهم في جعلها مبتدأ لا خبر له أبداً‏.‏ وهذا لا يتمشى له في نحو‏:‏ رب ضربة ضربت، ولا يطرد له في المكفوفة بما كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربما يود الذين كفروا كما اعترف به، وجعلها في هذا حرفاً‏.‏ وجعلها نوعين بحسب الاستعمالين مع اتحاد المعنى، تعسف لا ضرورة تدعو إليه‏.‏

وما أورده من الإشكالين على حرفيتها يضمحلان بجعلها حرفاً زائداً لا يتعلق بشيء، وهو مذهب جماعة من النحويين، كالباء ومن الزائدتين في نحو‏:‏ كفى بالله شهيداً ، وهل من خالق ، ولعل الجارة في لغة عقيل، ولولا الجارة الضمير، نحو‏:‏ لولاي، ولولاك، ولولاه، وكاف التشبيه، وحرف الاستثناء وهو خلا وعدا وحاشا إذا خفضن‏.‏

فهذه الحروف كلها لا تتعلق بشيء‏.‏ ذكرها ابن هشام في الباب الثالث من المغني‏.‏ فيكون محل مجرور رب في نحو‏:‏ رب رجل كريم عندي، رفعاً على الابتداء، ومنه‏:‏

ورب قتل عار

وفي نحو‏:‏ رب رجل كريم لقيت، نصباً على المفعولية، ولا يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف، أي‏:‏ لقيته، لأن في ذلك تهيئة العامل للعمل، وقطعه عنه‏.‏

ومثله‏:‏

رب رفد هرقته البيت‏.‏

وكذلك‏:‏ أسرى من معشر فإنه بتقدير‏:‏ أسرتهم‏.‏ وفي نحو‏:‏ رب رجل كريم لقيته، رفع ونصباً، وفي نحو‏:‏ رب ضرب ضربت، نصباً على المفعول المطلق، وفي نحو‏:‏ رب يوم سرت، نصباً أيضاً على الظرف‏.‏

والدليل على ما ذكرنا أنه يجوز مراعاة محل مجرورها كثيراً، نحو‏:‏ رب امرأة صالحة لقيت، ورجلاً صالحاً، وإن لم يجز، نحو‏:‏ مررت بزيد، وعمراً إلا قليلاً، كما يأتي نقله من المغني‏.‏

لكنه قال في الكلام على أقسام العطف على المحل‏:‏ إنه له ثلاثة شروط‏:‏ أحدها‏:‏ إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح‏.‏ وهذا الشرط مفقود هنا، ولعله مستثنى منه‏.‏

وقد ذهب ابن هشام في الباب الثالث من المغني إلى أنها لا تتعلق بشيء، فقال‏:‏ الرابع أي‏:‏ مما استثني من قولهم‏:‏ لا بد لحرف الجر من متعلق‏:‏ رب في نحو‏:‏ رب رجل صالح لقيته ولقيت، لأن مجرورها مفعول في الثاني، ومبتدأ في الأول، ومفعول على حد‏:‏ زيداً ضربته، ويقدر الناصب بعد المجرور به، لا قبل الجار، لأن رب لها الصدر من بين حروف الجر، وإنما دخلت في المثلين لإفادة التكثير والتقليل، لا لتعدية عامل‏.‏ هذا قول الرماني وابن طاهر‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ هي فيهما حرف جر معد‏.‏ فإن قالوا‏:‏ إنها عدت العامل المذكور فخطأ، لأنه يتعدى بنفسه، ولاستيفائه معموله في المثال الأول‏.‏

وإن قالوا‏:‏ عدت محذوفاً تقديره حصل ونحوه كما صرح به جماعة، ففيه تقدير لما معنى الكلام مستغن عنه ولم يلفظ به في وقت‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أيضاً في بحث رب من الباب الأول‏:‏ وتنفرد رب بوجوب تصديرها، ووجوب تنكير مجرورها، ونعته إن كان ظاهراً، وإفراده وتذكيره وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان ضميراً، وغلبة حذف معداها ومضيه، وإعمالها محذوفة بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد بل قليلاً، وبدونهن أقل‏.‏

وبأنها زائدة في الإعراب دون المعنى، فمحل مجرورها في نحو‏:‏ رب رجل صالح عندي رفع على الابتداء‏.‏ وفي نحو‏:‏ رب رجل صالح لقيت نصب على المفعولية‏.‏ ونحو‏:‏ رب رجل صالح لقيته، رفع ونصب، كما في زيداً لقيته‏.‏

ويجوز مراعاة محله كثيراً وإن لم يجز نحو‏:‏ مررت بزيد وعمراً، إلا قليلاً‏.‏ قال‏:‏ الطويل

وسن كسنيق سناء وسنم *** ذعرت بمدلاج الهجير نهوض

فعطف سنماً على محل سن‏.‏ والمعنى‏:‏ ذعرت بهذا الفرس ثوراً وبقرة عظيمة‏.‏ وسنيق‏:‏ جبل بعينه‏.‏ وسناء‏:‏ ارتفاعاً‏.‏ وزعم الزجاج وموافقوه أن مجرورها لا يكون إلا في محل نصب‏.‏ والصواب ما قدمناه‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ بوجوب تصدرها، أي‏:‏ في جملتها، وإن كانت مبنية على ما قبلها‏.‏ ألا ترى أن ما حرف نفي له صدر الكلام، وأنه يصح‏:‏ إن زيداً ما قام‏.‏ وكذلك رب تقع جملتها خبراً لإن، نحو‏:‏ الطويل

أماوي إني رب واحد أمه *** أخذت فلا قتل لدي ولا أسر

وخبراً لأن المخففة، كقوله‏:‏ الطويل

تيقنت أن رب امرئ خيل خائن *** أمين وخوان يخال أمينا

وجواباً للواو‏.‏ هو غريب كقوله‏:‏ الطويل

ولو علم الأقوام كيف خلفتهم *** لرب مفد في القبور وحامد

ومنع أبو حيان وجوب تصدرها، بهذه الأبيات، وغلط فيه‏.‏

وقوله‏:‏ وغلبة حذف معداها، أي متعلقها‏.‏ وكان ينبغي أن لا يذكر هذا، فإنه لا يناسب ما اختاره من عدم التعلق بشيء‏.‏

وأجاب عنه الشمني بأن مراده به الفعل الذي مجرورها مفعوله‏.‏

وقوله‏:‏ وبأنها زائدة في الإعراب، أورد عليه بأن هذا لا يختص برب، بل لعل ولولا وأخواتهما كذلك‏.‏ وهو حق‏.‏ ويمكن أن يجاب بأن رب تنفرد بجميع ما ذكر لا بكل واحد‏.‏

وقوله‏:‏ لأن مجرورها مفعول في الثاني قيل فيه أمران‏:‏ الأول‏:‏ أن كونه مفعولاً لا ينافي التعلق‏.‏

والثاني‏:‏ أن التعلق معناه أن المتعلق معمول بحسب المحل، إلا أن يراد أنه مفعول لفعل يتعدى بنفسه فلا حاجة لتعلق الحرف، بمعنى تعديته للفعل، بدليل مقابلته هذا الكلام بقوله‏:‏ وقال الجمهور هي فيهما حرف جر معد‏.‏

ثم إنه يمكن الجواب عن اعتراضه على الجمهور باختيار الشق الأول، وتعدي الفعل بنفسه لا يمنع تعديه بالحرف إذا قصد معنى لا يحصل بدون تعديه بذلك الحرف، فإنه لو عدي هنا بنفسه، فات معنى التقليل والتكثير‏.‏

ونظيره صحة قولك‏:‏ أخذت من الدراهم، فعديت الفعل بمن لإفادة معنى التبعيض، وإن كان يتعدى بنفسه‏.‏ وأخذ مفعوله في المثال الثاني لا يمنع جعله معمولاً لمثله، كما في‏:‏ زيداً ضربته‏.‏

واعترض الدماميني على الجمهور بأنه لو كان كما يقولون، لم يعطف على محل مجرورها رفعاً ونصباً في الفصيح، وقد جاز كما تقول‏:‏ رب رجل وأخاه أكرمت، فيجعلون لها حكم الزائد في الإعراب، وإن لم تكن زائدة في المعنى‏.‏ ولا يجوز في الفصيح‏:‏ بزيد وأخاه مررت‏.‏

والبيت الشاهد من قصيدة للأعشى ميمون، أولها‏:‏

ما بكاء الكبير بالأطلال *** وسؤالي وما يرد سؤالي

وتقدم شرحه مع أبيات منها قريباً‏.‏

ومدح بهذه القصيدة الأسود بن المنذر، أخا النعمان بن المنذر اللخمي، وكان قد أغار على الحليفين أسد وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعماً وأسرى، وسبى من بني سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة رهط الأعشى، والأعشى غائب، فلما جاء إليه وأنشده هذه القصيدة سأله أن يهب له الأسرى ففعل‏.‏

وهذه أبيات منها يخاطب ناقته‏:‏

لا تشكي إلي من ألم النس‏؟‏ *** ع ولا من حفى ولا من كلال

لا تشكي إلي وانتجعي الأس‏؟‏‏؟‏ *** ود أهل الندى وأهل الفعال

فرع نبع يهتز في غصن المج‏؟‏ *** د غزير الندى شديد المحال

عنده البر والتقى وأسا الش‏؟‏ *** ق وحمل للمعضلات الثقال

وصلات الأرحام قد علم الن *** س وفك الأسى من الأغلال

وهوان النفس الكريمة للذك‏؟‏‏؟‏ *** ر إذا ما التقت صدور العوالي

ووفاء إذا أجرت فما عز *** ت حبال وصلتها بحبال

وعطاء إذا سألت إذا الع‏؟‏ *** ذرة كانت عطية البخال

أريحي صلت تظل له القو *** م ركوداً قيامهم للهلال

إن يعاقب يكن غراماً وإن يع‏؟‏‏؟‏ *** ط جزيلاً فإنه لا يبالي

يهب الجلة الجراجر كالبس‏؟‏ *** تان تحنو لدردق أطفال

والبغايا يركضن أكسية الإض‏؟‏ *** ريج والشرعبي ذا الأذيال

والمكاكيك والصحاف من الف‏؟‏ *** ضة والضامرات تحت الرحال

وجياداً كأنها قضب الشو *** حط يحملن شكة الأبطال

ودروعاً من نسج داود في الحر *** ب وسوقاً يحملن فوق الجمال

لم ينشرن للصديق ولكن *** لقتال العدو يوم القتال

رب رفد هرقته ذلك اليو *** م وأسرى من معشر أقيال

وشيوخ حربى بشط أريك *** ونساء كأنهن السعالي

وشريكين في كثير من الم *** ل وكانا محالفي إقلال

قسما الطارف التليد من الغن‏؟‏ *** م فآبا كلاهما ذو مال

لن يزالوا كذلكم ثم لا زل‏؟‏ *** ت لهم خالداً خلود الجبال

قوله‏:‏ لا تشكي إلي من ألم النسع‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، هو بكسر النون وسكون المهملة، واحده نسعة، وهي التي تنسج عريضاً للتصدير‏.‏ والحفى بفتح المهملة والقصر‏:‏ رقة الخف والحافر والقدم، من كثرة المشي‏.‏ والكلال‏:‏ مصدر كل البعير وغيره من المشي، إذا أعيا‏.‏

والندى‏:‏ الجود‏.‏ والفعال بالفتح‏:‏ الكرم والجميل‏.‏ وغزير‏:‏ كثير‏.‏ والمحال، بالكسر‏:‏ القوة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو شديد المحال ‏.‏ كذا في العباب‏.‏

وقوله‏:‏ وأسا الشق، قال شارح ديوانه‏:‏ أي التئام اشق، ومن ذلك سمي الآسي الذي يأسو الجرح‏.‏

والمعضلة‏:‏ المشكلة، أي‏:‏ وعنده حمل للأمور المعضلات، وعنده فك الأسرى‏.‏ والأغلال‏:‏ جمع غل بالضم، وهو ما يوضع في عنق الأسير ونحوه من سلسلة حديد وقد‏.‏

وقوله‏:‏ وهوان، أي‏:‏ وعنده هوان، أي‏:‏ إهانة النفس في الحرب‏.‏

والعوالي‏:‏ جمع عالية، وهي من مدخل السنان في الرمح إلى ثلثه‏.‏ وصدورها‏:‏ أوساطها‏.‏

وقوله‏:‏ ووفاء، أي‏:‏ وعنده وفاء، إذا أجرت أحداً من أن يظلمه ظالم فيفي بإجارة من أجار من أصدقائه، فكيف لا يفي هو بإجارة من يجيره‏.‏ وهذا خطاب لكل من يصلح معه الخطاب‏.‏

وكذا قوله‏:‏ وعطاء إذا سألت، أي‏:‏ وعنده عطاء، إذا سألته‏.‏ والعذرة، بالكسر‏:‏ العذر، أي‏:‏ هو يعطي ولا يعتذر، كما أن البخلاء يعتذرون ولا يعطون‏.‏ وعز من العزة، وهي القلة‏.‏ والحبال مستعارة للعهود‏.‏

والأريحي‏:‏ الذي يرتاح للعطاء‏.‏ والصلت بالفتح، قال شارحه‏:‏ هو القاطع‏.‏ والراكد‏:‏ القائم، فيكون قيامهم مصدراً تشبيهياً‏.‏

والغرام، بالفتح، قال شارحه‏:‏ هو الموجع‏.‏

وقوله‏:‏ يهب الجلة بالكسر، جمع جليل، وهي الإبل المسنة‏.‏ والجراجر بجيمين، قال صاحب الصحاح‏:‏ هي العظام من الإبل‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ قال‏:‏ وكذلك الجرجور‏.‏

وقال شارحه‏:‏ ويروى‏:‏ الجراجير، جمع جرجور، وهي الإبل الكثيرة‏.‏ وتحنو‏:‏ تعطف‏.‏ والدردق‏:‏ الصغار من أولادها، شبهها بالبستان‏.‏

وقوله‏:‏ والبغايا، أي‏:‏ ويهب البغايا، قال شارحه‏:‏ البغايا هنا‏:‏ أولاد الإماء‏.‏ والإضريج‏:‏ الأخضر من الخز‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ الشرعبي‏:‏ ضرب من البرود‏.‏

وقوله‏:‏ والمكاكيك، أي‏:‏ ويهب المكاكيك، قال شارحه‏:‏ المكاكيك‏:‏ آنية يشرب فيها الخمر‏.‏ والصحاف‏:‏ القصاع‏.‏ والضامرات‏:‏ النجب من الإبل‏.‏

وقوله‏:‏ وجياداً، أي‏:‏ ويهب خيلاً جياداً‏.‏ والقضب‏:‏ جمع قضيب وهو فرع الشجر، شبهها به لضمرها‏.‏

والشوحط‏:‏ ضرب من شجر الجبال يتخذ منه القسي‏.‏ قال شارحه‏:‏ والشكة‏:‏ السلاح الكامل‏.‏

وقوله‏:‏ ودروعاً، أي‏:‏ ويهب دروعاً‏.‏ قال شارحه‏:‏ الوسوق‏:‏ الأحمال، جمع وسق‏.‏ ويحملن‏:‏ بالبناء للمفعول‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ لم ينشرن‏.‏

وقوله‏:‏ رب رفد هرقته إلخ ، خطاب مع الأسود بن المنذر يمدحه بكثرة قتله وكثرة أسره‏.‏

وقوله‏:‏ وشيوخ بالجر عطف على مدخول رب‏.‏ وكذا قوله‏:‏ ونساء، يقدر في الثلاثة سبيتهم‏.‏

وحربي‏:‏ جمع حريب، من حرب الرجل ماله، أي‏:‏ سلبه، فهو محروب وحريب‏.‏

وقوله‏:‏ وشريكين معطوف أيضاً على مجرور رب، وهو في محل رفع على الابتداء‏.‏ وفي كثير متعلق به، وجملة‏:‏ قسماً من الفعل والفاعل خبره‏.‏

وصرعى‏:‏ جمع صريع، أي‏:‏ مقتول‏.‏ والمحالفة‏:‏ المصاحبة‏.‏ والإقلال‏:‏ الفقر والحاجة‏.‏

والطارف‏:‏ المال المستحدث‏.‏ والتليد‏:‏ المال القديم، وحرف العطف منه محذوف‏.‏ والغنم بالضم‏:‏ الغنيمة‏.‏

وآبا‏:‏ رجعا‏.‏ يقول‏:‏ كانا فقيرين، فلما غزوا معك استغنيا، قسما بينهما مال الغنيمة، الذي كان عند صاحبه طارفاً وتليداً‏.‏

قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏:‏ أريك، بفتح الهمزة وكسر الراء المهلمة وآخره كاف‏:‏ موضع في ديار غني بن يعصر‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ أريك في بلاد ذبيان، قال‏:‏ وهما أريكان‏:‏ أريك الأسود، وأريك الأبيض‏.‏ والأريك‏:‏ الجبل الصغير‏.‏ قال‏:‏ وبشط أريك قتل الأسود بني ذبيان، وبني دودان، وسبى نساءهم‏.‏

قال الأعشى في مدح الأسود‏:‏

وشيوخ صرعى بشط أريك ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

ويدلك على أن أريكاً جبل مشرف قول جابر بن حني يصف ناقة‏:‏ الطويل

تصعد في بطحاء عرق كأنم *** ترقى إلى أعلى أريك بسلم

وقال الأخفش‏:‏ إنما سمي أريكاً لأنه جبل كثير الأراك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أيضاً في شرح أمالي القالي‏:‏ هذا اليوم الذي ذكره في قوله‏:‏ رب رفد هرقته ذلك اليوم هو اليوم الذي أغار فيه الأسود بن المنذر على الطف، فأصاب نعماً وأسرى من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى، وذلك منصرفة من غزو الحليفين أسد وذبيان‏.‏ وكان الأعشى غائباً، فلما قدم وجد الحي مباحاً، فأنشده هذه القصيدة وسأله أن يهب له الأسرى، ففعل‏.‏ انتهى‏.‏

والطف‏:‏ موضع بناحية العراق من أرض الكوفة، وهناك الموضع المعروف بكربلاء، الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما‏.‏

وقول البكري في معجمه‏:‏ والصحيح أن الطف على فرسخين من البصرة غلط وخطأ‏.‏

وسبب غزو الحليفين هو ما ذكره الأصبهاني في الأغاني‏:‏ أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب العامري، وهو نازل عند النعمان بن المنذر، سأل الأسود بن المنذر عن أمر يبلغ من الحارث، فقال عروة بن عتبة‏:‏ إن له جارات، ولا أراك تنال منه شيئاً، هو أغلظ عليه من أخذهن، وأخذ أموالهن‏.‏ ففعل فبلغ ذلك الحارث بن ظالم، فخرج من الحيين فدخل في غمار الناس، حتى عرف موضع جاراته، ومرعى إبلهن، فجمعهن مع أموالهن، وسار معهن حتى استقذهن‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ولحق ببلاد قومه مستخفياً، وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري، وكان الأسود بن المنذر دفع إليها ابنه شرحبيل تكفله، وكانت بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان، امرأة سنان ترضعه، وهي أم هرم‏.‏

فجاء الحارث بن ظالم، وكان قد اندس بلاد غطفان، فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان، وهم نزول بالشربة، فأتى أخته سلمى، فقال‏:‏ يقول لك بعلك‏:‏ ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له منه، وهذا سرجه آية إليك‏.‏

فزينته ثم دفعته إلى الحارث، فأتى بالغلام ناحية من الشربة فقتله وهرب، فغزا الأسود بني ذبيان، وبني أسد إذ نقضوا العهد، بشط أريك‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ هما أريكان‏:‏ الأسود والأبيض، ولا أدري بأيهما كانت الوقعة‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى، لدفع الأسدية ابنه إلى الحارث‏.‏ وفي ذلك يقول الأعشى يمدح الأسود‏:‏‏؟‏وشيوخ صرعى بشط أريك ونساء كأنهن السعالي

من نواصي دودان إذ نقضوا العه‏؟‏ *** د وذبيان والهجان الغوالي

رب رفد هرقته ذلك اليو *** م وأسرى من معشر أقتال

هؤلا ثم هؤلا كلاً احذي‏؟‏ *** ت نعالاً محذوة بمثال

وأرى من عصاك أصبح مخذو *** لاً وكعب الذي يعطيك عالي

قال‏:‏ ووجدت نعل شرحبيل عند أضاخ، بضم الألف وبالمعجمتين، وهي من الشربة من ديار بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان‏.‏

قال‏:‏ فأحمى لهم الأسود الصفا بصحراء أضاخ، وقال لهم‏:‏ إني أحذيكم نعالاً‏.‏ فأمشاهم على ذلك الصفا فتساقط لحم أقدامهم‏.‏

فلما كان الإسلام هجا جوشن الكندي بني محارب، فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم، فقال‏:‏ الطويل

على عهد كسى نعلتكم ملوكن *** صفاً من أضاخ حامياً يتهلب

وصار ذلك مثلاً يتوعد به الشعراء‏.‏

ومثل ذلك أن ابن عباد الكلابي، ورد على بني البوس من جديلة طيئ، فسرقوا سهاماً له، فقال يحذرهم‏:‏ الطويل

بني البوس ردوا أسهمي إن أسهمي *** كنعل شرحبيل التي في محارب

وإنما فعل الأسود ذلك ببني محارب من أجل نعل شرحبيل التي وجدت عندهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لن يزالوا بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع من ذكر ممن قتلوا، وأسروا، ونهبواً من الأعداء، وممن غزا معه وقتل وغنم من الأولياء‏.‏

وقوله‏:‏ لا زلت بالخطاب، ولهم بضمير الغيبة‏.‏ فظهر من هذا أن روايته في كتب النحو لن تزالوا بالخطاب ولا زلت لكم بالتكلم والخطاب، على خلاف الرواية الصحيحة‏.‏

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏ وهو شاعر جاهلي‏.‏

وقد اشتبه على العيني فقال‏:‏ قائل‏:‏

رب رفد هرقته ذلك اليو *** م ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الرحمن‏.‏

ولا يخفى أن هذا الشاعر إسلامي في الدولة المروانية زمن الحجاج، ولم يكن في زمن الأسود بن المنذر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏